كانت سناء تهم مسرعة في تَوضيب أغراضها و هي
على أسبوع من يوم زفافها، يومٌ كان له في قلبها الصغير وقعٌ و توقيعٌ لميلاد تاريخ
جديد، تاريخ الحب الذي ظنَّته مستحيلا حتى أكرمها الرحمن برجلِ قلبها و روح روحها،
فهي في قِمَم الإحساس الدافق و السعادة الغامرة، كانت ترى نفسها أسعدَ مخلوقٍ درج
فوق الأرض ساعةَ إِذْ ..
- "نُورْ، أختي نور مالي أراك على غير عادتك، ألا تشاركيني؟
فالوقت ضيق و الأشغال و التراتيب لا تزال كثيرة كما ترين" .. قالت سناء و هي
تخاطب صديقتها المقرّبة.
كانت نور قد جاءت باكراً لبيت صديقتها، فهما قد
درستا جميعا و نبتَتَا نبتاً طيباً فلم تكونا تفترقان إلا في القليل النادر، فكانت
إحداهن للأخرى كالتوأم تَقَارَبْن في الطموح لكن على فروق، فقد كانت نور أكثر
نباهة و اتزاناً فكانت كلما استنارت جنبات قلبها استشارت عقلها ! فكان الصواب
حليفها في كثير من قرارات حياتها ..
- "اعذرني يا سناء، أنا متعبة قليلا فقد بِتّ ليلتي على
أَرَقٍ حرمنيَ الرقاد ..
هيَّا هيَّا هاتِ الفساتين الوردية، ناوليني
الحقيبة الكبيرة، قَرِّبي الأغراض التي اشتريناها أول أمس، هات .. .. .."
فقاطعتها سناء بلطف ..
- "خبريني ما بك يا نور، أنت قلقة و تستغرقين في التفكير منذ
حدثْتِنِي عنه .. ما الذي جرى لك و أنت العاقلة فلم يصادفك أحد إلاّ حيّاك و بيّاك
على بُعدِ نظرك و عمق تفكيرك و صواب قرارك ..؟ ألا يمكن أن تكوني مرحة مثلي؟
مُنْتَشية لا تُعِيرين اهتماماً لِمَا هو آت .."
ثم قامت سناء في ردهة الغرفة مبتسمة مغمضة
العينين و هي تتمايل و تغني فاتحة ذراعَيْها و بيدَيْها مناديل شفافة خفيفةُ
الألوان كأنّ رياح العرس قد هبَّت عليها ..
"يا حبيبي يا نفسَ نفسي ..
ليت دمعك وَقودَ حسِّي ..
آه منك أيها الغرامُ ..
كم تجرح و لا تلامُ .."
ثم استرسلت و تابعت تغني غناءًا مكسورا لا
يستقيم و قد بدأَتْهُ بكلماتٍ تعَلَّمَتها من نور !
-"اجلسي أيتها المتهورة، و الْزَمِي مكانك لننتهي من شغلنا،
أما أمري يا سناء فليس من شغلك، و قد أخبرتك خبرًا وليدًا لم يتِمّ فلا تحاسبيني
بما لا تعرفين .."
-"حبيبتي، أريد ألا تجعليه أمرا عظيما، إن لم يَرُق لك
فالرجال كثير، و إن بقيتِ على حالك فلن يحصل شيء إلا أَرَق مترادف و ضغطٌ و تعكيرٌ
لا يسعفك معه صفاء تفكير .."
-"القلبُ قلبي و العقلُ عقلي، و قد نبَّهتك مرارًا أن النافذة
التي أُطِلّ منها على الحياة غير نافذتك، و الطريقة التي أتناول بها الأشياء غير
طريقتك، ونمط حياتي غير الذي أنت فيه، صحيح أنا مُغْرِقة مُوغِلة في فضاء هذا
الرجل، فقد وجدته رجلاً لا كالرجال و لهذا فأنا متحفزة متوجسة تتجاذبني أطراف
الإقدام و التريُّث، و ما وجدتُ فيه إلا خيرا بحمد الله، لكنني أجدني محتاجة لبعض
الوقت، و لا أدري ما الحاجة لكل هذا الوقت و قد وجدت رجُلي ..!"
-"حبيبتي نور، كانت معرفتي بمحمد بسيطة لم تتجاوز عشرة أيام
كان للأهل فيها النصيب الأوفر في توافقنا و هم من دلُّوني عليه، و ما تحدثتُ و
إياه كثيرًا، فقد أحبّني و أحببته من أول لقاء و انتهى الأمر، كل ما أتمناه معه
عيشا رغيدا و طفلا وليدا و بيتا مشيدا و طعاما لذيذا ها ها ها .. أليس كذلك يا نور
..؟!!"
رَمَقَتها نور بنظرتها المعتادة للبشر كلما
دهمتها كلمات من فؤادها ليست من الوجود، فلا تستطيع البوح بها فربما ظنَّها السامع
مجنونة أو ميتة في صورة حية، و كعادتها ألجمت الحلق على الاسترسال، و كعادتها
ألهبت الضلوع بموقفها المفجوع ..! و هي تقول في نفسها : تبًّا تبًّا لقد كفرتُ يا
ربي بهكذا حياة، ثم أردفت تقول ..
-"سناء .. أنت محظوظة، لم تُكلِّفي الوجود شيئا فجاءك بمن
تحبين في أول خطوة و بأقصر المـُدَد و تمّ التوافق بنظرة عَيْن فقط! أهو الحظّ
فعلاً أم العدل أم الجزاء على سذاجتك ..!؟ ".
على أنّ السذاجة في الحبّ سذاجتين، فواحدة تكون
في أدنى تباشير الفطرة، تكون فيها كل أمور القلب و الروح على سطحيتها لا إيغال و
لا اختراق لـِحُجُبِ جنّةِ المعاني التي بها تَصنعُ النفسُ الحياةَ .. و السذاجةُ
الأخرى تنفصل فيها الروح و تتصل بأطراف الفرح و المرح السماويّ المستسلم لكل ما هو
جميل، الواثق بكل بريق مهما يكن مصدره، فهذه قد استَرْوَحتِ الخلد لكن يلزمها
راشداً و حارساً من البصيرة يستقرئ ما وراء بواعثِ الجمال ..
ردّت سناء : "أنت يا نور علمتني أشياء
كثيرة كنت أراها في مواقف شتى فأَذْكُرُك، لكنني لم أجد ما يشجعني على جعل حياتي
مع زوجي على ما كنت تحفزيني عليه، فأنا لا أجد القدرة على الارتواء مما تقرئين،
فلماذا أقرأ؟ و أنا أرى الآلام تقتات من دمك و حياتك و أنت التي خَبَرْتي من
الحياة مالم ندركه نحن زميلات الجامعة، كنتِ دائمة الإنكسار و إن حاولتِ إخفاء
هذا، و كنا لا نشك أنك لك عالمـاً غامضاً لم يَلِجه أحد، صحيح أنّ البنات تَحَدّثن
عنه و أنهن لا يعلمن منه شيئا، لكننا ما كنا نشكّ أنه عالم دَامِي فنَرْفَأ بك و
نشفق عليك و ما كُنَّا قادرات على الكلام فيه معك لِمَا آتاك الله من هيبةِ الوقار
جعلتك فوق سَمَانا و أنت الجريحة الكسيرة ..!"
-"لا عليك أيتها المـُسْتكشِفةُ الفاشلة ..!"
ثم ضحِكتا ضحكةً ملأت الغرفة ..
قالت نور : "اقتربي أيتها المتهورة ! سوف
أكشف لك عن أمرِ ليلتي، فلم يكن سهاد و لا أَرَقْ، بل اجتاحني خاطرٌ هو من النسيم
أَرَقّْ ! و لم يكن نومٌ و لا يقظة فقد كانت روحي عنده! و ما عرفتُ لجسدي تعبا و
لا راحة، فلم أكن أحس بشيء غير انتظار عودة الروح، و كنتُ قبل هذا قد ضمَّختُ
رسالة إليه مازجتْ دماء قلبي حبر القلم، بَثَثْتُه فيها آلام الشعور مترنِّمة
بأحَنّ ألحانِ الحبّ، أطلقتُ لقلبيَ العنان ليبوح بكل شيء، حرَّرْتُ نفسي من نفسي
و اندفعتُ مكشوفة المعاني لأخفف عنه ما يعاني، كانت روحي تعانقه و تلثمه و تعتذر
له عما كان مني من إباء إذْ كان يحدثني و لا يخفي عني شيئا حتى أنه كان يناديني في
كل رسائله و يلقبني بما أُحبّ "حبيبتي"، و لم أبادله نفس النداء اللطيف
الذي يحبه الرجل، فما أتعسني، منحته قلبي و حياتي، و كل خلية فيّ كان تصيح
"حبيبي" إلا قلمي، فلم تقدر أناملي أن تخطها، لا لأني ضنينةٌ بها بل لأن
لهيبها سيحرقني و يحرقه و لم يَحِن أوانها بعد، بل ليتني قلتها و لتُحْرَق الدنيا
كلها إن كان في ذلك رضاه .. تعالي يا سناء لأطلعك على رسالتي الذهبية فقد
رَصَّعْتُ معظم سطورها بالكلمة التي يحبها .. تعالي يا سناء لتقرئي ما لن تفهميه و
لن يفهمه أحد .. تعالى ليزداد يقينك بغموض عوالمي .. تعالي لأستشيرك و ما كنت
لأستشير فلم يقرأ رسائلي إليه أحد من البشر، و قد خصَصْتُك يا سناء تَبَرُّكًا ببُشرى
زفافك عَلَّني أنال مما أَنَالَكِ الله .."
ثم استخرجت نور رسالتها من صدرها، كأنها تخشى
عليها من الموت، فجعلت نبضَ قلبها نبضاً لرسالة حبّها ..!
فما همَّتْ بفتح الرسالة حتى عَلَتْ ضجَّةٌ
نسوية في رواق البيت، ثم اقتحمتْ الغرفة جموعُ فتياتٍ من أقارب العروس جِئن
يُباركن لها، على أن يمكثن معها و بقربها حتى تُزَفّ لحبيبها ..
و بقيتْ رسالة نور لم تُقرأ و لم تُفتح، و كأنّ
الحبّ يستعلن أنّ ما بين الحبيبين أكبرُ من تراهُ أعينُ الغرباء ..!
-----------
كتبه بدرالدين ..
و بقيتْ رسالة نور لم تُقرأ و لم تُفتح، و كأنّ الحبّ يستعلن أنّ ما بين الحبيبين أكبرُ من تراهُ أعينُ الغرباء ..!
ردحذفـــــــ
فكرة رائعة :)
أحببت القصّة..أسلوبًا وفكرةً..
جزاك الله خيرا و نفع بك و بقلمك ..
ردحذفشكرا لك على المرور و التوقيع ..